أنواع الشعر العربي - قصيدة النثر
ذلك أن القيم العربية العامة لم تتغير جذريا حتى تتغير الأشكال الأدبية والبنى الذهنية جذريا،.
المجتمع العربي مايزال يراوح مكانه اجتماعيا وثقافيا، ولم يزده الاستعمار الغربي والصدمة الحضارية الناتجة عنه إلا نكوصا وارتدادا الى ذاته وماضيه ، فهو لم يبرح بعد لحظة الخطابة والتوصيل الشفاهي الى مرحلة الكتابة ، بما ترمز اليه الكتابة من اعتماد التقنية أداة في تفعيل التواصل الأدبي والشعري خاصة ، ومن حرية فردية في التلقي والتأويل (6).
لقد نظر الى النص الجديد، في ظل الظروف العامة أعلاه ، كمؤزرة للانكسار العام الذي أضحت الأمة تعيشه ، حضاريا وسياسيا، ورثى في (اللاشكل ) الذي أصبحت تنادي به قصيدة النثر، معادلا موضوعيا للبعثرة التي تعرفها الأحوال العربية (7) ونحن على بعد سنوات قليلة ، فقط من سقوط فلسطين والاستقلالات الوطنية في معظمها، طرية لا تزال ، وثقافيا /أدبيا، مايزال الشعر التفعيلي يثير جدلا صاخبا بين المؤيدين
والرافضين (
.
ومما يزيد هذه الفرضية تأكيدا أن النقد العربي الذي رأى (في قصيدة النثر) عصيانا وشكلا غربيا دخيلا، رحب بقدوم الرواية والقصة القصيرة ، وهما شكلان غربيان ، ورأى في موت المقامة حدثا طبيعيا ، كما لم ينتبه لكون الشعر التفعيلي ، ذاته فكرة غربية رغم قيامه على التفعيلة الخليلية .
من هنا الصعوبة الكبرى التي لقيتها هذه القصيدة في الانضمام للحقل الشعري العربي، والرفض الذي ووجهت به هي وأصحابها ، إذ لأول مرة في تاريخ الشعر العربي سيرفض نص ويحارب ، وينظر في ذات الآن ، الى الشاعر كشخص غريب الأطوار، بل وكمريض عصي على المعافاة ، والى قصيدة النثر كمؤشر على قساوة اليأس الذي أصاب الذات العربية(9).
إن مثل هذه الأحكام ، وهي كثيرة تجعل الشعرية في رتبة أدنى من الشعر، فتحكم على النصوص انطلاقا من الموضوعات التي تثيرها مستخلصة الجمالي من الوجودي(10)، في حين أن العكس هو المطلوب من كل عملية نقدية علمية تعتمد الملاحظة والاستقراء والرصد والمقارنة لا المناظرة والجدل ، وتسعي الى أن تشارك الابداع في تأسيس مذهب أدبي جديد زي أسس واضحة ، لأن الجنس الأدبي لا يولد كاملا، كما لا ينال فشله إن فشل ، من القيم الأدبية الراسخة (11).
فهذا النوع من (النقد) إنما يحجب ضوء النص ، ويحول دون الدنو منه لمساء لته فهو يسائل المضامين في غفلة عن علاقتها بالمستويات الايقاعية المتعددة للنص ، وهو لا يرى في اللغة إلا طريقا للوضوح والابانة غافلا عن كون الوضوح الايقاعي لا المعنوي هو المطلوب في النص الشعري، وهو نقد يسائل الشاعر أكثر مما يسائل النص ، وهو ينطلق من معيار شعري سابق يحاكم في ضوئه النص الجديد (12).
فإلى جانب الحيرة التي يدفع اليها ازدواجية الانتماء للشعر والنثر معا (قصيدة النثر) فإن الأشكال (اللاشكلية ) التي تتخذها هذه القصيدة بحرية بادية ، والموضوعات الصاعقة التي لم يخطر بمال ، يوما أنها ستصبح موضوعات شعرية وشخصية شاعرها القريبة من شخصية الصعلوك بمعنييه القديم والحديث معا، ولفتها التي تخلت عن كل (وقار)، وتنصل شاعرها من كل مسؤولية سياسية أو قومية مباشرة ساعيا الى تغيير الحياة بدل تغيير العالم ، مقتربا من رامبو ومعرضا عن ماركس ، حيث غدا الشاعر الحداثي يمارس نشاطه بغض النظر عن الشروط العامة التي تضمن لرسالته سلامة الوصول والفهم فهو قد أعاد النظر في مفهوم الشعر وفي وظيفته ، ومنح نفسه كشاعر، وضعا اعتباريا غريبا، وصدم المتلقي ولم يأبه بالمؤسسة الوسيطة التي تعين من يتكلم وتحدد له شروط الكلام (13) .، وملغيا بكثير من الكبرياء والعجرفة شجرة نسبه في مناخ يؤمن بتسلسل الأنساب ويقول بوراثة كل ذلك سهل عملية الهجوم على "قصيدة النثر" والمناداة بوأاها في المهد، ودفع النقاد الأكثر اعتدالا الى تقديم النصيحة لأصحابها بالبحث عن الشعر في مظانه لأنهم أخطأوا الطريق !
هذا المصطلح المركب (قصيدة - النثر) الذي زاد من صعوبة تقبل هذا النص لا يمكن فهمه الا في ضوء الحيثيات السابقة لأن صفة النثرية هنا تحمل حكم قيمة وتستدعي على الفور النص المضاد، أي (قصيدة الشعر) التي هي القصيدة الموزونة تقليدية أم تفعيلية (15).
ورغم أن كتاب (قصيدة النثر) عربيا هم أول من استعمل هذه التسمية وكتبوا تنظيراتهم الساخنة مرددينها فإن أعداء الشكل الجديد سرعان ما سيستغلونها (التسمية ) للطعن فيه ومهاجمته (16).
ويبدو أن مصطلح (قصيدة النثر) أطلق ، عربيا ، بنوع من الطمأنينة "رغبة في تسمية الأشياء بأسمائها للخروج من البلبلة والخلاص من تشويا الحقائق (17) كما كانت نية المتحمسين له ، في حين أنا مصطلح يفتح باب الجدل على مصراعيه بدل أن يفلقا فإضافة لكونه يستدعي تعميق النظر في مفهوم النثر وهي مهمة ليست سهلة أبدا فإنه يجعل من البحث عن علائق النص الجديد بالأشكال الشعرية السابقة عليه أو المحايثة له ضروريا كما يستعجل تحديد الأسس الشكلية والبنائية لقصيدة النثر التي مهما ادعت أنها ضد الأشكال كلها فإن لها شكلا .
هكذا ستضع قصيدة النشر الدرس النقدي في مأزق لأنها جمعت بهذا الشكل الفج بين الحقلين المكونين للعملية الأدبية كلها: الشعر والنثر. وهذا الجمع الذي يفاجئنا منذ البدء، سيبعثر المسلمات الاجناسية ويدفع الى اعادة النظر في استراتيجيات التلقي .. بتعبير أوجز نقول : إن قصيدة النثر جسدت كل الاشكاليات الشعرية العربية قديما وحديثا وحتمت إعادة النظر في القناعات النقدية والأدبية والبحث عن معرفة انسب لما يفرضه النص الجديد (18).
من هنا كان ضروريا النظر في العلائق بين الشعر والنثر للاقتراب ، ما أمكن من الفجوات التي يتسرب منها هذا لذاك والعكس ، واستقصاء الامكانيات الايقاعية التي تنطوي عليها اللغة بعيدا عن الثنائية الصارمة : الشعر /النثر.
لذا لن نبحث عن تعريفات للشعر وللنثر، ولا عن التقلبات المفاهيمية التي لحقتهما عبر مسيرة الأدب العربية الطويلة ، وانما سنسعي الى الاقتراب من الابدالات الايقاعية بينهما.